يقول الإمام القاضي أبو بكر بن العربي المعافري الإشبيلي(ت543هـ)
رحمه الله:
اعلموا - أنالكم الله آمالكم في المعلومات- أن معرفة العبد نفسه من أوْلَى ما عليه وأوْكَده؛ إذ لا يعرف ربه إلاَّ من عرف نفسه، قال الله سبحانه: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات: 21].
وقال: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون: 12]
ولو شاء ربنا لخلق المعرفة لعبده ابتداءً من غير أن يَنْصُبَ لَهُ عليه دليلاً، ويُعَرّفَهُ بوجه الدليل، ولكنه بحكمته خَلَقَهُ غَيْرَ عالِم، ثم رَتبَ فيه العلم درجات، كما قال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) [النحل: 78]
فلا إخراج أنفسهم علموه، ولا وصف ربهم عَرَفُوه، ولا شاورهم فيه، ولا علموا بحالة من أحواله. فخلق السمع لخطابه، والبصر للاعتبار به، والأفئدة لِمَقَر عِلْمِهِ .
وعرف العبد نفسه في قوله: (مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون: 12] لئلا يعجب بنفسه ولئلا يتعجب أحد أيضاً من سوء فعله، ثم قال سبحانه: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) [المؤمنون: 14].
ليعرفك أن الشرف والقَدْر إنما هو للترْبِيةِ لا للتُرْبة.
فإذا نظر العبد في نفسه علم أنه موجود لغيره، وتحقق أن ذلك الغير لا يصح أن يوجده غيره؛ لأنه لو كان أيضاً موجوداً لغيره لافتقر ذلك الغير إلى مثله، وتسلسل الأمر ولم يتحصل، وعنه وقع البيان بقوله سبحانه: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) [النجم: 42].
فإنك بأي شيء بدأت، فعند الباري تعالى تقف، ابتداء خلق الأشياء من عنده، وانتهاؤها إليه، وفاتحةُ العلوم من قبله، وغايتها عنده، لا معلوم بعده، فصح أنه لا بد من الوقوف بالعلم على مُوجِدٍ، لا مُوجِدَ سواه.
قانون التأويل
للإمام القاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الإشبيلي
ص: 457-458-459.
دراسة وتحقيق
محمد السليماني
- دار القبلة للثقافة الإسلامية مؤسسة علوم القرآن
جدة بيروت
الطبعة الأولى
1406 هـ - 1986م
دار القبلة للثقافة الإسلامية مؤسسة علوم القرآن
جدة:المملكة العربية السعودية دمشق- سوريا